حوارٌ مع صديقي المانشستري
تهللت أسارير النادل الإيراني فور رؤيتي وصاح: "شاي منعنع؟". ابتسمتُ وفرشتُ الأوراق على الطاولة نفسها في كل مرة ورحتُ أعمل. لم أنتبه للمرتاد الإنجليزي الذي دخل بعدي واتخذ مقعدا بالقرب مني. كنتُ غارقاً في عملي وترجمتي ولم أتطلع إلى وجوه الشرقيين وغيرهم في المقهى كما تعودتُ كلما أخذني الحنين إلى الشرق. "اسكيوز مي، مَيت". خمّنتُ من لهجته أنه من أبناء مانشستر، واستغربتُ في الوقت ذاته أن يبدأ الحديث معي، فليست من عادة أحفاد تشرشل البدء بالحديث مع الأجانب بالذات، ولكن أعتقد أن الحروف "الهيروغليفية" التي أمامي شدّت انتباهه.
- ما تلك اللغة على تلك الأوراق؟
- اللغة العربية.
- أتدرس الدراسات الإسلامية هنا في مانشستر؟
- لا، بل أدرس الترجمة بين العربية والإنجليزية.
لاحظتُ تغيّر قسمات وجهه، وتقارب رمشيه من خلف نظاراته السميكة فيما يدلّ على ابتسامة خافية. إلى هنا انتهى الحديث وعدتُ إلى أوراقي.
بعد دقائق، عاد يحدّثني من جديد.
- عفوا، هل لي بسؤال؟
- طبعا.
- لماذا في رأيك يجمع العالم، بل وحتى أنتم المترجمون على أن المترجم خائن أو الترجمة خائنة؟
استفزّني هذا السؤال..واستنتجتُ أنه لا يسأل من واقع جهل، بل لغاية في نفس يعقوب. عدّلتُ من جلستي، ولكن قلتُ بنبرة تخفي شعوري:
- ما رأيك أنت؟
- رأيي أنا- ولا إهانة أقصد- أنه مهما حاول المترجم واجتهد، فإنه لا بدّ أن يخون النص الأصلي. عندما تقارن النص الأصلي والترجمة، لا تجد القوة نفسها والعمق نفسه. من الطبيعي أن تحس بوجود شيء ناقص كنتَ قد أحسستَ به في النص الأصلي، ومهما امتلك المترجم من زمام لغته ولغة النص الأصلي، للأسف لا يستطيع إنتاج نفس الروح. وأنت تعرف بالتأكيد أن هناك أشياء في اللغة لا تنتقل مع الترجمة. وبما أن عملية الترجمة بين اللغتين احتوت على فقدانٍ ما ينتقص من كمالها، فهناك خيانة.
أحسستُ بأن هذا المانشستري يعي ما يقوله جيدًا، ويجيد الجدل، فأدركتُ أنني في موقف صعب.
- دعنا نناقش الموضوع يا سيدي. أولا، ما طبيعة العلاقة بين المترجم والنص حتى تكون هناك خيانة؟ هل تتصور أن الترجمة هي علاقة زوجية يكون فيها المترجم طرف يخون الطرف الآخر؟ ولا تنس أن كلمة خيانة يترتب عليها التسليم بوجود عهدٍ قطعه المترجم ثم تنكّر له.
- أنت تؤكد المقولة ولا تفنّدها، فوجود العهد أمرٌ بديهي. كل شيء قائم على عهدٍ بتحقيق الغاية من وجوده، والوفاء بهذا العهد هو ما يضمن وجوده، فإن انتقض العهد زالت الكينونة. هذا القلم الذي بين يديك متعهد لك بمساعدتك على الكتابة، وما أن يكف عن خدمتك ويبلى، يُصبح وجوده بلا قيمة. وفي كل عملٍ يوجد عهد بديهيّ على الإتقان. المترجم بالفعل يقطع على نفسه عهدا ضمنيا بنقل النص الأصلي نقلاً كاملا "أمثل" دون حذفٍ أو إضافة. وأنت تدرس الترجمة وتتبحر فيها كي تتقن الوفاء بهذا العهد.
- لا أختلف معك في مسألة العهد والكينونة، ولكن لنتفق على الغاية من الترجمة. مقولتك تصوّر أن الترجمة "المثلى" هي نقل ما في النص الأصلي نقلا مطابقا دون زيادة أو نقصان، وإلا انتقض العهد ونتجت خيانة. من قال لك ذلك؟ من أين أتيت بهذه المسلّمة؟ استعارتك هذه تجعل من النص المترجَم وعاء نصبّ فيه النص الأصلي عبر قناة هي المترجم الذي يحوّل الكلام من لغة إلى أخرى فقط. عندما تتكلم عن النقل فأنت تصوّر النص الأصلي على أنه أداة محسوسة كصندوق أنقله من مكانٍ إلى آخر، ويجب ألا أضيف عليه أو أنقص منه شيئا.
- أوليس هذا ما تقولونه أنتم أنفسكم أيها المترجمون واللغويون؟
قال ذلك والتقط كتابًا من كتب دراستي. فتح صفحاته الأولى وقرأ بنبرة استهزاء لا يخفيها:" الترجمة هي عملية نقل المحتويات اللغوية وغير اللغوية من نص بلغةٍ ما إلى نص آخر بلغة أخرى. أنتم الذين تتحدثون عن (نقل) اللغة. بل أكثر من ذلك أن كلمة ترجمة في لغاتٍ عديدة مشتقة من النقل".
- دعك من تعريف الكتاب غير المقدس هذا، ولنتحدث في اللغة التي تزعم أن الترجمة تنقلها. اللغة في كل مكانٍ عبارة عن نظام من رموز صوتية أو كتابية في سياق اجتماعي له دلالات خاصة، يخلقه الإنسان كي يتفاهم مع من يعيشون حوله، وهو متأثر بظروف تاريخية واجتماعية حكمت بوجوده وعناصره وتطوّره. لماذا لا تستطيع أنت نطق حرف "الطاء"؟ ولماذا لا يستطيع العربي نطق حرف "ﭫ"؟ هناك ظروف وتداعيات اجتماعية وغيرها كوّنت هذه اللغات. وعندما تأتي الترجمة، فإنها وسيلتي كي أفهمك. ولكن هل أفهمك بلغتك؟ إنما أفهمك بلغتي. وإذا اتفقنا على أن اللغة هي الطريقة التي أجمعتُ أنا ومن يتحدثون لغتي على التعبير بها عما أريد، فلا يوجد ما يلزمني بالطريقة التي أجمعتَ عليها أنت ومن يتحدثون لغتك على التعبير بها عما تريد. فإن اختلفت طريقتي عن طريقتك، لا يعني ذلك بأنني خائن.
- قد تستطيع المراوغة بهذه الحجة في الترجمات العلمية، حيث المعنى والمعلومة هما الأهم. ولكن ماذا عن الترجمة الأدبية؟ النص الأدبي له تكوينه الخاص الذي يميزه عن غيره بفضل الطريقة التي يستخدمها الكاتب. طريقته هي التي تجعل منه أديبا مميزا. هل ستنتج النص بطريقتك لا طريقة الكاتب؟ لا يمكنك أن تكتب "تاجر البندقية" بطريقتك ثم تنسبها زورًا وبهتانا إلى شكسبير. تريد أن تخلق شكسبيرا عربيا ثم تقول أنه شكسبيرنا؟ من البديهي أن على المترجم أن يلتزم بأسلوب شكسبير وتعابيره حتى يترجمه بشكل صحيح، وحتى يترجم شكسبير –لا تولستوي أو أجاثا كريستي. ألا ترى أنك تتعرف أحيانا على كاتبٍ ما من أسلوبه دون أن تقرأ اسمه على الغلاف؟ أين هذا الأسلوب في الترجمة؟ أتريد أن تقنعني بأنه يمكن أن أقرأ ترجمة لعمل كاتبٍ ما وأتعرف عليه من "أسلوبه"؟
بدا لي أن هذا المانشستري مجادل لدود ويهوى التنظير، ولا ينفع معه إلا الهجوم بطريقته.
- إن العمل الأدبي يا صديقي عبارة عن فعلٍ تواصلي فيه مرسل وهو الكاتب، ورسالة وهي النص ومستقبل وهو القارئ. وصيغة الرسالة تحكمها العلاقة بين المرسل والمستقبل لغويا واجتماعيا وثقافيا. وأنا عندما أترجم فإنني آخذ الرسالة من المرسل الأصلي وأعيد كتابتها لأوصلها إلى مستقبلين جدد لم يتوجه إليهم المرسل أصلا، فالعلاقة بينه وبينهم معدومة. والرسالة نفسها تحتوي على تعقيد يمزج بين البلاغة والتصوير والإيقاع الموسيقي، والسحر الأدبي...
- آهاه..ها أنت تقولها بنفسك "السحر الأدبي". إنه سحرٌ خاص يخلقه الكاتب بأسلوبه وفكره وخياله، فكيف للترجمة أن تقدم لي هذا السحر نفسه بأسلوب وفكر وخيال ليسوا للكاتب وإنما للمترجم ؟ يجب أن نعترف بعجز الترجمة هنا. فالمترجم مهما كان بارعا لا يستطيع أن يتقمص الكاتب ويستخدم فكره وخياله وأسلوبه. لا تقل لي أنك تستطيع نقل سحر شكسبير إلى لغتك. أتستطيع أن تبثّ فيّ عبر ترجمتك نفس السحر الذي تملّكني وأنا أقرأ "هاملت" بالإنجليزية؟ هل تستطيع؟
ختم جملته بابتسامة انتصار، ورشف من كوب قهوته رشفة طويلة وتنهّد بارتياح.
- جميلٌ أنك تحدثت عن السحر. يا صديقي، هذه الكلمة التي فرحتَ بها هي نفسها التي تثبت وجهة نظري.
قد قلتها كي أخفف على نفسي هول الهجوم الكاسح الذي شنّه علي ، ولكن يبدو أنها كانت رمية من غير رامٍ، فقد أربكته وسمحت لي بفرصة للتفكير. عدّل من جلسته، ونظر إليّ بارتياب، فتابعت:
- السحر والروعة اللذان أحسستَ بهما في قراءة "هاملت" بالإنجليزية لا يكمنان في المعاني أو الأحداث أو الأفكار أو الأسلوب الأدبي فقط، بل هناك شيء ما يغلفها جميعا ويقولبها ولا تستقيم دونه. اللغة نفسها. كيف كان لشكسبير أن يبثّ فيك سحره لولا لغته بتركيبها ونظامها ودلالاتها وأصواتها؟ وكيف تريد هذا السحر نفسه بعدما فرّغته من تلك اللغة؟
أظنني أبليتُ بلاء حسنا، ولكنه ضحك تلك الضحكة الإنجليزية "الباردة" وقال:
- هذا بالضبط ما أريد قوله، وأعتقد أننا وصلنا لنهاية النقاش بعد اعترافك. اسمعني، الترجمة لا يمكن أن تنقل ذلك السحر بسبب تفريغ النص من لغته على حد قولك، فهناك فقدان حتمي لا مفرّ منه. وهذا الفقدان يساوي عدم اكتمال المهمة، يساوي عدم الإتقان، وهي الخيانة التي أتحدث عنها.
استلّ كوب قهوته كي يفرغه في جوفه علامة النصر، وتأكيدًا على أنه لم يبقَ لديّ ما أقوله. ولكن لن أستسلم.
- الخيانة يا عزيزي تكون في عدم الوفاء بعهدٍ ممكن التحقيق متفق عليه أو مُتوقع الحدوث، فيجب أن يكون هناك عهد وأن يكون قابلا للتحقيق. أما أن أتهم سيارتي بالخيانة لأنها لا تطير فوق المطب، فهذا عبط . وأما أن تنقل لك الترجمة "سحر" اللغة الأخرى فهو أمر لا يتوقعه أحد ولا تزعمه هي لنفسها.
- سأقبل منك هذا الرد. أنت تقول أن نقل "السحر" من لغةٍ إلى أخرى غير ممكن. طيب، لننسَ النص الاصلي ولغته. نظريًا ذلك لا يمنع من إنتاج "سحر" في اللغة المترجَم إليها يوازي ذلك السحر في النص الأصلي. الترجمة الأدبية موجودة منذ مئات السنين، ولكننا لم نشهد غير أمثلة تُعد على أصابع اليد كانت فيها الترجمة بمستوى سحر النص الأصلي. خذ أي نصّين أحدهما مترجم، وسترى أن النص الأصلي يؤثر فيك أكثر. سترى أن سحر النص الأصلي أوقع في نفسك. فهل كل المترجمين أضعف "سحرًا" من المؤلفين؟ حتى المترجمين الأدباء عندما يترجمون ينتجون سحرًا أضعف.
- ومن قال أن للسحر الأدبي معيارا ثابتا واحدا في كل اللغات والثقافات؟ من الجهالة أن تفترض مثلا كون هوميروس أشعر من الخيّام، أو أن نجيب محفوظ أقل إبداعًا في كتابة الرواية من ماركيز. أنت تفترض أن السحر الأدبي هو نفسه في الإنجليزية وفي العربية وفي الفرنسية. ما يشجيك لا يشجيني، وما يسحرك قد لا يستهويني. المسألة مسألة اختلاف لا نقص، وليس الاختلاف كالنقص. أما قراءتك لبعض الترجمات ركيكة اللغة والتعبير، فهذه مسألة أخرى يُنتقد فيها المترجمون لا الترجمة كمفهوم.
صمت قليلاً صديقي المانشستري ولكنه زمّ شفتيه ورفع حاجبيه دلالة على التفكير.
- سؤال أخير..لماذا إذن تجهدون أنفسكم بالترجمة الأدبية وتلصقون الترجمة باسم المؤلف طالما تعلمون أن الترجمة لا تنقل السحر الأصلي؟ وأعتقد أن ترجمة العمل الأدبي في وقت قراءته قد تؤثر في المترجم وتقلل من إبداعه اللغوي. لماذا لا يقرأ المترجم النص الأصلي ثم يكتب بلغته نصًا جديدًا مقتبسا من النص الأصلي، بدلا من أن يترجم على هواه ثم يلصق اسم المؤلف على الترجمة، والمؤلف بريء منها؟
- يا صديقي..عندما يترجم أحدهم شكسبير، لا أنتظر منه أن يكون شكسبير، بل أن يعرّفني به وبما كتب. ولو أردتُ معرفة شكسبير مباشرة لقرأت له بلغته. ترجمة الأدب موجودة لكي نستمتع بها، ونتعلم منها، ونعرف كيف فكّر غيرنا..لا لكي يكون المترجمون نسخة من المؤلفين. ولقد ساعدتني كثيرًا يا صديقي..بالفعل ما يفعله المترجم (أو يجدر به) هو كتابة جديدة للنص الأصلي. ألم أقل لك أنه يعيد كتابة الرسالة إلى مستقبلين جدد؟
هنا...رشفتُ أنا رشفة طويلة من الشاي المنعنع..وحاول أن يرشف من كوب قهوته، فلم يجد شيئا.
منقول عن الجمعية الدولية للمترجمين العرب
|